سورة السجدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


يقول الحق جل جلاله: {قل يتوفاكم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّل بكم}؛ بقبض أرواحكم فتموتون،، {ثم إلى ربكم تُرجعون}؛ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفي: استيفاء الروح، أي: أخذها، من قولك: توفيت حقي من فلان، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان. وعن مجاهد: زُويت الأرض لملك الموت، وجُعلت مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء. وعن مقاتل والكلبي: بلغنا أن اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وله الدنيا مثل راحة اليد، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل: أن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الموتى، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين- وفي حديث آخر، خمس مرات، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله؛ ضربه بتلك الحربة. وقال: الآن يُزار بك عسكر الأموات.
فإن قيل: ما الجمع بين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] و{تَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النساء: 97] و{قُل يَتَوَفَاكُم مَّلَكُ المَوتِ} وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} [الزمر: 42]؟ فالجواب: أن توفي الملائكة، القبضُ والنزعُ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها، ثم يذهبون بها إلى عليين، وقبض الحق تعالى: خَلْقُ الموتِ فيه: والحاصل: أنَّ قبض الملك: المباشرة، وقبض الحق: الإخراجُ؛ حقيقةً.
قال الورتجبي: قال الحسن: ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكي الموت والحياة، فقال العراقي: لم أجد له أصلاً. ويعني بملك الحياة: كون الأرواح أنفاسَ ملك الحياة؛ كما في الإِحْيَاء. ومذهب أهل السُنَّة قاطبة: أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح، من بني آدم والبهائِم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ، كيبس الشجر وجفاف الثياب، فلا قبض لأرواحها وهو أعم من كونها تُبعث أو: لا؛ بأن تعاد عن عدم بخلاف المكلف فإن روحه لا تعدم، خلافاً للملاحدة، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً، كجفاف العود الأخضر، وهو كفر.
هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة، فيكون معنىً وجودياً، أو هو عدم الحياة، فيكون عدماً، وعلى كلا القولين فألأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان، منعّمة أو معذبة.
{ولو ترى} يا محمد {إذِ المجرمون} وهو الذين قالوا: {أئذا ضللنا في الأرض...} إلخ، و {لو} و {إذ} للماضي، وإنما جاز هنا؛ لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع، و {ترى} هنا، تامة لا مفعول لها، أي: لو وقعت منك رؤيةٌ {إذ المجرمون ناكسوا رؤوسِهم} أي: وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم، {عند ربهم}؛ عند حساب ربهم، قائلين: {ربنا أبصَرْنا وسَمِعْنا} أي: صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك، وأبصرنا ما حدثَتْنَأ به الرسلُ، وسمعنا منك تصديق رسلك، {فارجعنا} إلى الدنيا {نعملْ صالحاً} من الإيمان والطاعة، {إِنا موقنون} بالبعث والحساب الآن.
وجواب {لو}: محذوف، أي: لرأيت أمراً فظيعاً.
{ولو شئنا لآتَيْنَا كلَّ نفسٍ هُداها} أي: ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة، أي: لو شئنا لأعطيناه في الدنيا، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي، لو كان منهم اختيارُ ذلك، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف؛ لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة؛ فإن عندهم: قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها، لكنها لم تهتد وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر، وهو فاسد. قال تعالى: {ولكن حقَّ القولُ مني لأملأنّ جهنمَ من الجِنّة والناس أجمعين}، أي: ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفي تخصيص الجن والإنس: إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا، ولا يصح ذلك، إلا أن يكونوا من الجن.
{فذُوقُوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي: باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا، وهو الإيمان به. {إِنا نَسيناكم}: تركناكم في العذاب، {وذوقوا عذابَ الخُلْدَ} أي: العذاب الدائم الذي لا انقطاع له {بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصي.
ثم ذكر ضدهم بقوله: {إنما يُؤمن بآياتنا}؛ القرأن {الذين إذا ذُكَّروا بها خَرّوا سُجَّداً}؛ سجدوا لله؛ تواضعاً وخشوعاً، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام، {وسبَّحوا بحمد ربهم} أي: نزَّهوا الله عما لا يليق به، وأثنوا عليه؛ حامدين له، {وهم لا يستكبرون} عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنِّه، آمين.
الإشارة: أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب، يتوفاهم ملك الموت، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان؛ يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام؛ كما قيل في الأخفياء من الأولياء؛ الذين اختص الله تعالى بعلمهم- أنه يتولى قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به فلا يعدوا عليها الثرى حتى يُبعثوا بها مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم، بالرجوع إليه من الفناء، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد في الخبر؛ «من واظب على قراءة آية الكرسي، دُبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال الإكرام»
يعني: من تدبر معناها. والمراد بذلك خطفتها بالتجلي، واستغراقها في الشهود، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط، مع وجود الواسطة؛ لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت؛ لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ، فخاطبهم على قدر أفهامهم، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم. وكلَّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. اهـ. وقال في قوله: {ولو ترى إذ المجرمون....} الآية: مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة، فاعترفوا، حينَ لا عُذْرَ، واعترفوا، حينَ لا اعتراف. اهـ.
قوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها..}. قال القشيري: لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم، وأردنا أن يكون للنار قُطان، كما يكون للجنة سُكان، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ. فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا، إذ لو لم يقع، ولم يحصل؛ لم يكن عِلْماً. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أُريد ذلك. ويقال: من يتسلَّطْ عليه من يحبه؛ لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك، فما تفعل فيما مضى، كيف تبدله؟ وما تصنع في مشيئتي، وبأي وسع ترُدُّها؟ وأنشدوا:
شكا إليك ما وَجَدْ *** من خَانَهُ فيك الجَلَدْ
حيرانُ لو شئتَ اهتدى *** ظمآنُ لو شئتَ وَرَدْ
. اهـ.
قوله تعالى: {إنما يؤمن...} الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم، بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {تتجافى} أي ترتفع وتتنحى {جُنُوبهم عن المضاجع}؛ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل: وَهَب لقوم هِبَةً، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، {يَدْعُونَ} أي: داعين {ربَّهم خوفاً}، أي: لأجل خوفهم من سخطه {وطمعاً} في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: «هو قيامُ العبد من الليل». وعن ابن عطاء: أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم. وقال ابن عمر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «من عَقَب- أي: أحيا- ما بين المغرب والعشاء؛ بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يُرد: الدعاء بين المغرب والعشاء». اهـ. وقيل: هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها.
{ومما رزقناهم ينفقون} في طاعة الله، يعني: أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. {فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لهم من قُرة أعين} أي: لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تقرّ به العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب: {أَخْفَى}؛ على المضارع. {جزاء بما كانوا يعملون}، وعن الحسن: في القوم أعمالهم في الدنيا؛ فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أن المرادَ الصلاةُ في جوف الليل؛ ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.
وفي حديث أسماء، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين، يوم القيامة، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع، اليوم، مَنْ أَوْلَى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل. ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون، وهم قليل، يسرحون جميعاً إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله- عز وجل-: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: واقرؤوا، إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.
وقال في البدور السافرة: أخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجّنَّة مَائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لَوَسعَتْهُمُ». اهـ. وقال ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد، الضبي، يذكر عمن حدَّثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أول درجة منها دورُها وبيوتها وأبوابها وسرُرُها ومغاليقها، من فضة، والدرجة الثانية: دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة: دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسَبْع وتسعون درجة، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى». اهـ.
وقيل: المراد بقرة الأعين: النظر إلى وجه الله العظيم. قلت: قرة عين كل واحد: ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام. قال أبو سليمان: شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفعُ الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.
الإشارة: قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم؛ من نعيم الصقور، والحور، والولدان، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقطة، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية، ثم عن مضاجع الفَرْقِ، إلى حال الجمع، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهؤلاء على صلاتهم دائمون، وفي حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة، والعكوف في الحضرة، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية، سرية؛ خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود، وعبرة واستبصار، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد ورد: (تفكر ساعة أفضل من عبَادَةِ سَبْعينَ سَنَة). هذا تفكر الاعتبار، وأما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة، أفضل من ألف سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي *** قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّه
أي: سنة، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكراً، وقياماً بآداب العبودية، وهي في حقهم كمال، كما قال الجنيد: عبادة العارفين تاج على الرؤوس. اهـ. وفي مثل هؤلاء ورد الخبر: «إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم، إذ سطع عليهم نور من فَوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم في الهواء، يزورون ذا الجلال الإكرام، فينادون هؤلاء: يا أخواننا، ما أنصفتمونا، كنا نُصلي كما تُصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء من قِبل الله تعالى: كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكتون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم»
فذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. اهـ.
قال القشيري: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، في الظاهر، عن الفراش، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد، وفي الباطن: بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قَدرِ النفس، وتوهم المقام؛ لأن ذلك بجملته، حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمٍّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم، ولا يلاحظون أحوالهم، ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجُرون معارفهم. والليل زمان الأحباب، قال الله تعالى: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [القصص: 73] يعني: عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم، والنهارُ زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 11].. انظر بقية كلامه.


يقول الحق جل جلاله: {أفمن كان مؤمناً} بالله ورسله {كمن كان فاسقاً}؛ خارجاً عن الإيمان {لا يستوون} أبداً عند الله تعالى. وأفرد أولاً؛ مراعاةً للفظ من، وجمع ثانياً مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله: {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جناتُ المأوى} أي: المسكن الحقيقي، وأما الدنيا، فإنها منزل انتقال وارتحال، لا محالة، وقيل: المأوى: جنة من الجنان. قال ابن عطية سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها. اهـ. أي: في الدنيا؛ لأنها في حواصل طير خضر، كما ورد في الشهداء، وأما الصدِّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها، تسرح حيث شاءت. {نُزُلاً بما كانوا يعملون} أي: عطاء معجلاً بأعمالهم. والنُزُل: ما يقدم للنازل، ثم صار عاماً.
{وأما الذين فسقوا فمأواهم النارُ} أي: هي ملجأهم ومنزلُهم، {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها}، فلا خروج منها، ولا موت، {وقيل} لهم: {ذُوقُوا عذابَ النار الذي كنتم به تُكذِّبون}، هذا دليل على أن المراد بالفاسق: الكافر؛ إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزي: فإن قيل: لِمَ وصف، هنا، العذاب، وأعاد عليه الضمير، ووصف، في سبأ، النار وأعاد عليها الضمير، فقال: {عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 42]؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه خص العذاب في السجدة بالوصف؛ اعتناء به؛ لَمَّا تكرر ذكره في قوله: {لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر..}، الثاني: أنه تقدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر، فكما لا يوصف المضمر؛ لم يوصف ما قام مقامه، وهو النار، فوصف العذاب، ولم يصف النار، الثالث- وهو الأقوى: أنه امتنع في السجدة وصف النار، فوصف العذاب، وإنما امتنع وصفها؛ لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. اهـ.
الإشارة: أفمن كان مصدقاً بطريق الخصوص، داخلاً فيها، شارباً من خمرتها، كمن كان فاسقاً خارجاً عنها، مشتغلاً بنفسه، غريقاً في هواه، لا يستوون أبداً. أما الذين آمنوا بها، وصدقوا أهلها، ودخلوا في تربيتهم، فلهم جنات المعارف، هي مأواهم ومعشش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم، فمأواهم نار القطيعة، وعذاب الحرص، وغم الحجاب، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها؛ إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم: ذوقوا وبال الإنكار، وحرمان الخصوصية، التي كنتم بها تكذبون.

1 | 2 | 3 | 4